الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
ويقال: أشط في السوم إذا أبعد فيه، أي قولا هو في نفسه شطط، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى. {وأنا ظننا} الآية: أي كنا حسنا الظن بالإنس والجن، واعتقدنا أن أحداً لا يجترئ على أن يكذب على الله فينسب إليه الصاحبة والولد، فاعتقدنا صحة ما أغوانا به إبليس ومردته حتى سمعنا القرآن فتبينا كذبهم. وقرأ الجمهور: {أن لن تقول} مضارع قال؛ والحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم: تقول مضارع تتقول، حذفت إحدى التاءين وانتصب {كذباً} في قراءة الجمهور بتقول، لأن الكذب نوع من القول، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قولا كذباً، أي مكذوباً فيه. وفي قراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول، لأنه هو الكذب، فصار كقعدت جلوساً.{وأنه كان رجال}. روى الجمهور أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في وادٍ نادى بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، فيعتقد بذلك أن الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه. فروي أن الجن كانت تقول عند ذلك: لا نملك لكم ولا لأنفسنا من الله شيئاً. قال مقاتل: أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن، ثم بنو حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب. والظاهر أن الضمير المرفوع في {فزادوهم} عائد على {رجال من الإنس}، إذ هم المحدث عنهم، وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير. {فزادوهم} أي الإنس، {رهقاً}: أي جراءة وانتخاءً وطغياناً وغشيان المحارم وإعجاباً بحيث قالوا: سدنا الإنس والجن، وفسر قوم الرهق بالإثم. وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى: قال معناه: ما لم يغش محرماً، والمعنى: زادت الإنس الجن مأثماً لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالاً لمحارم الله تعالى.وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد: {فزادوهم}، أي الجن زادت الإنس مخافة يتخيلون لهم بمنتهى طاقتهم ويغوونهم لما رأوا من خفة أحلامهم، فازدروهم واحتقروهم. وقال ابن جبير: {رهقاً}: كفراً. وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجن، فالمعنى: وإنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس، وكان الرجل يقول مثلاً: أعوذ بحذيفة بن اليمان من جن هذا الوادي، وهذا قول غريب. {وإنهم}: أي كفار الإنس، {ظنوا كما ظننتم} أيها الجن، يخاطب به بعضهم بعضاً. وظنوا وظننتم، كل منهما يطلب، {أن لن يبعث}، فالمسألة من باب الإعمال، وإن هي المخففة من الثقيلة. وقيل: الضمير في وأنهم يعود على الجن، والخطاب في ظننتم لقريش، وهذه والتي قبلها هما من الموحى به لا من كلام الجن: {أن لن يبعث الله أحداً}: الظاهر أنه بعثة الرسالة إلى الخلق، وهو أنسب لما تقدم من الآي ولما تأخر. وقيل: بعث القيامة. {وأنا لمسنا السماء}: أصل اللمس المس، ثم استعير للتطلب، والمعنى: طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فوجدناها ملئت. الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصاب وتعدت إلى واحد، والجملة من {ملئت} في موضع الحال، وأجيز أن تكون تعدت إلى اثنين، فملئت في موضع المفعول الثاني. وقرأ الأعرج: مليت بالياء دون همز، والجمهور: بالهمز، وشديداً: صفة للحرس على اللفظ لأنه اسم جمع، كما قال: ولو لحظ المعنى لقال: شداداً بالجمع. والظاهر أن المراد بالحرس: الملائكة، أي حافظين من أن تقربها الشياطين، وشهباً جمع شهاب، وهو ما يرحم به الشياطين إذا استمعوا. قيل: ويحتمل أن يكون الشهب هم الحرس، وكرر المعنى لما اختلف اللفظ نحو: وقوله: {فوجدناها ملئت} يدل على أنها كانت قبل ذلك يطرقون السماء ولا يجدونها قد ملئت. {مقاعد} جمع مقعد، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحداً فوق واحد، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها، ثم يزيد الكهان الكلمة مائة كذبة. {فمن يستمع الأن}، الآن ظرف زمان للحال، ويستمع مستقبل، فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال، كما قال: فالمعنى: فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي، {يجد له شهاباً رصداً}: أي يرصده فيحرقه، هذا لمن استمع. وأما السمع فقد انقطع، كما قال تعالى: {إنهم عن السمع لمعزولون} والرجم كان في الجاهلية، وذلك مذكور في أشعارهم، ويدل عليه الحديث حين رأى عليه الصلاة والسلام نجماً قد رمي به، قال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية»؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيمقال أوس بن حجر: وقال عوف بن الجزع: وقال بشر بن أبي حازم: قال التبريزي: وهؤلاء الشعراء كلهم جاهليون ليس فيهم محضرم، وقال معمر: قلت للزهري: أكان يرمي بالنجوم في الجاهلي؟ قال: نعم، قلت: أرأيت قوله: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع}؟ فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الجاحظ: القول بالرمي أصح لقوله: {فوجدناها ملئت}، وهذا إخبار عن الجن أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت، ولما روى ابن عباس وذكر الحديث السابق. وقال الزمخشري: تابعاً للجاحظ، وفي قوله دليل على أن الحرس هو الملء والكثرة، فلذلك {نقعد منها مقاعد}: أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها. انتهى. وهذا كله يبطل قول من قال: إن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إحدى آياته. والظاهر أن رصداً على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع.ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا: {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض}، وهو كفرهم بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل بهم الشر، {أم أراد بهم ربهم رشداً}، فيؤمنون به فيرشدون. وحين ذكروا الشر لم يسندوه إلى الله تعالى، وحين ذكروا الرشد أسندوه إليه تعالى. {وأنا منا الصالحون}: أخبروا بما هم عليه من صلاح وغيره. {ومنا دون ذلك}: أي دون الصالحين، ويقع دون في مواضع موقع غير، فكأنه قال: ومنا غير صالحين. ويجوز أن يريدوا: ومنا دون ذلك في الصلاح، أي فيهم أبرار وفيهم من هو غير كامل في الصلاح، ودون في موضع الصفة لمحذوف، أي ومنا قوم دون ذلك. ويجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن، حتى في الجمل، قالوا: منا ظعن ومنا أقام، يريدون: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، والجملة من قوله: {كنا طرائق قدداً} تفسير للقسمة المتقدمة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة: أهواء مختلفة، وقيل: فرقاً مختلفة. وقال الزمخشري: أي كنا ذوي مذاهب مختلفة، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله: أو كانت طرائقنا قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه. انتهى. وفي تقديريه الأولين حذف المضاف من طرائق وإقامة المضاف إليه مقامه، إذ حذف ذوي ومثل. وأما التقدير الثالث، وهو أن ينتصب على إسقاط في، فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ، فلا يخرج القرآن عليه.{وأنا ظننا أن لن نعجز الله}: أي أيقنا، {في الأرض}: أي كائنين في الأرض، {ولن نعجزه هرباً}: أي من الأرض إلى السماء، وفي الأرض وهرباً حالان، أي فارين أو هاربين. {وأنا لما سمعنا الهدى}: وهو القرآن، {آمنا به}: أي بالقرآن، {فمن يؤمن بربه فلا يخاف}: أي فهو لا يخاف. وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور: {فلا يخاف}، وخرجت قراءتهما على النفي. وقيل: الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء، وكان الجواب بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوماً دون الفاء، لأنه إذا كان بالفاء كان إضمار مبتدأ، أي فهو لا يخاف. والجملة الاسمية أدل وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة. {بخساً}، قال ابن عباس: نقص الحسنات، {ولا رهقاً}، قال: زيادة في السيئات، {ولا رهقاً}، قيل: تحميل ما لا يطاق. وقال الزمخشري: أي جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا رهق ظلم أحد، فلا يخاف جزاءهما. ويجوز أن يراد: فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى، ولا أن ترهقه ذلة من قوله عز وجل: {ترهقهم ذلة} انتهى. وقرأ الجمهور: {بخساً} بسكون الخاء؛ وابن وثاب: بفتحها. {ومنا القاسطون}: أي الكافرون الجائزون عن الحق. قال مجاهد وقتادة: والبأس القاسط: الظالم، ومنه قول الشاعر: وجاء هذا التقسيم، وإن كان قد تقدم {وأنا منا الصالحون}، ومنا دون ذلك ليذكر حال الفريقين من النجاة والهلكة ويرغب من يدخل في الإسلام. والظاهر أن {فمن أسلم} إلى آخر الشرطين من كلام الجن. وقال ابن عطية: الوجه أن يكون {فمن أسلم} مخاطبة من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما بعد من الآيات. وقرأ الأعرج: رشداً، بضم الراء وسكون الشين؛ والجمهور: بفتحهما. وقال الزمخشري: وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم، وكفى به وعيداً، أي فأولئك تحروا رشداً، فذكر سبب الثواب وموجبه، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال في قوله وموجبه.
|